الحوار الثقافي بين لبنان وإيران وأثره في التقريب بين الشعبين - د. علي يوسف نور الدين - الجامعة اللبنانيّة يُعتَبَر التفاعل الفكري بين الشعوب، من أرقى أنواع العلاقات البشريّة التي تجمع بين الإخوة، بعيدًا عن أي فرْض أو إكراه... كما هي الحال في العلاقات الأخرى؛ لذا، هي علاقات تفاعليّة صادقة، راسخة، عابرة للأجيال والحدود... المقدمة
يُعتَبَر التفاعل الفكري بين الشعوب، من أرقى أنواع العلاقات البشريّة التي تجمع بين الإخوة، بعيدًا عن أي فرْض أو إكراه... كما هي الحال في العلاقات الأخرى؛ لذا، هي علاقات تفاعليّة صادقة، راسخة، عابرة للأجيال والحدود... لأنّها تقوم على التأثّر والتأثير، من خلال الإعجاب المتبادل. 
ومن هذا المنطلق، تفاعل الشعبان اللبناني والإيراني على مرّ العصور، تلاحماً فكريًّا وحوارًا ثقافيّاً متميّزًا : فلسفة وديناً وأدباً ولغة؛ الأمر الذي تمخّضت عنه حضارة رائدة، رفدَت البشريّة على مرّ العصور، بكل عوامل الرقيّ والتطوّر والتقدّم، في مجالات الحياة المختلفة. 
إذا أمعنّا النظر في العلاقات التي كانت تربط بين الملوك الإخمينيّين، والمدن الفينيقيّة، فإنّنا لا نراها قائمةً على التعاون العسكري والسياسيّ فقط... بل أيضاً على إعجاب هؤلاء الملوك الفرس، بالثروة الفكريّة، التي كانت تمثّلها عظمة ملوك هذه المدن وثقافةُ أهلها، وحُسْنُ إبداعاتهم وتقدُّمِ علومِهم؛ لذا كان الإخمينيّون يولون المدنَ الفينيقيّة اهتماماً خاصّاً، من خلال النهوض بما فيها في جميع مرافق الحياة، لدورها الفاعل في مجريات أحداث الإمبراطوريّة.
ورغم أفول العصر الإخمينيّ، بمجيء الإسكندر المقدوني إلى بلادنا سنة 330 ق. م.، فإنّ هذا التفاعل الفكري بين الفرس وسكّان هذه البلاد، لم يعدم وسيلة للبقاء، بصورة أو بأخرى. ولعلّ خير شاهد على استدامة هذا التفاعل... هذه الألفاظ الفارسيّة التي كانت تتسرّب باستمرار إلى لهجاتنا المحلّيّة... مع بقاء العنصر الفارسيّ، كأحد مكوّنات المجتمع المحلّي( ). 
ومع الفتح العربيّ الإسلاميّ لبلاد فارس، ودخول الإيرانيّين في دين الله أفواجاً، وانكبابهم على وضع المؤلّفات في شتّى أصناف المعرفة، باللسان العربيّ.. باتت الألفاظ الفارسيّة (المعرّبة أو غير المعرّبة) جزءًا لا يتجزّأ من لهجاتنا الفصحى أو العامّيّة على حدّ سواء. الأمر الذي دفع كثيرّا من العلماء إلى وضع التصانيف الخاصّة بذلك( ). 
ولم يكن لبنان بمعزل عن هذا الاجتياح اللغوي المتجدّد، لذا، أصبحت الألفاظ الفارسيّة في لغتنا المحكيّة في هذه الأيام، تقدّر بالآلاف( ).
وبما أنّ التفاعل الفكري لا يسلك اتجاهاً واحداً، فقد أجمع علماء اللغات، على أنّ اللغة العربيّة، تمثّل في أكثر من ستين في المائة من المعجم الفارسي أيضاً. 

العلاقات الفكريّة في عصر الدولة الصفويّة
وإذا كانت العلاقات الفكريّة بين لبنان والفرس، إبّان العصور الإسلاميّة الأولى، هي العلاقات التي كانت تسود عادةً من خلال تفاعل المكوّنات المجتمعيّة في الدولة الواحدة... ككلّ... فإنّ هذه العلاقات قد سلكت أيام الدولة الصفوية طريقاً مستقيماً ومباشرًا مع لبنان... وخصوصاً مع "جبل عامل" حتّى باتت هذه "الحقبة الصفويّة" (1501 – 1785م.) هي الحقبة الذهبيّة لهذا التفاعل الفكري بين البلدين... على امتداد تاريخه الطويل، نظراً للإسهام الفعّال، لعلماء جبل عامل في تشكيل فكر الدولة الصفويّة وعقيدتها( )...  وهي العقيدة ذاتها التي تقوم عليها "الجمهورية الإسلاميّة الإيرانيّة" في أيّامنا هذه. 
وقبيل انهيار الدولة الصفويّة... ومع تصاعد قوّة الخلافات بين الصفويّين والعثمانيين، انتقل هذا العداء إلى "جبل عامل".. سيّما في عهد الوالي العثماني على عكّا، أحمد باشا الجزّار، الذي سلب "جبل عامل" استقلاله بعد معركة "يارون" (قرب بنت جبيل) سنة 1195 ه. / 1780 م.، حيث اكتسحت جيوشه البلاد وصادرت المكتبات الحافلة بأنواع الكتب القيّمة، والمخطوطات النفيسة، كمكتبات آل خاتون، وآل الصغير، وآل الأمين، وآل نور الدين، وآل شرف الدين، وآل فضل الله، وآل الحرّ، وآل نعمة، وآل يحيى، وآل السبليني، وآل إبراهيم، وآل الزين، وغيرهم من بيوتات العلم والوجاهة في "جبل عامل"... لتنقلها إلى عكّا وقوداً لأفرانها. إلى جانب تخريب البلاد، وقتل العباد( ). 
وأمام هذا الظلم المادّي والنفسيّ والجسدي، من قبل العثمانيّين وأتباعهم... آثر كثير من أبناء هذه العائلات، وغيرهم من أبناء "جبل عامل"، الهجرة إلى أماكن يحتمون بها. فوجدوا ضالتهم في إيران (وخصوصاً في أصفهان) يتنفسون فيها الصعداء، وينصرفون للتأليف، تعويضاً عن تراثهم الفكري، الذي أحرقه هولاكو عكا... فصنّفوا أعداداً كبيرة، من أمهات الكتب، التي ما زالت تُدرَّس في الحوزات والجامعات الدينيّة حتى اليوم. 
وإلى هذا التأثير المهم لعلماء "جبل عامل" في مجرى الحياة الفكريّة الإيرانيّة، يشير الشهيد الشيخ مرتضى مطهّري (ت 1979 م) في كتابه "الإسلام وإيران"، فيقول : "إنّ لعلماء جبل عامل دوراً مهمّاً في الخطوطِ العامّةِ للدولةِ الصوفيّةِ الشيعيّة : فالصفويّون كانوا صوفيّةً، ولو لم يعتدل خطّ الصوفية، الصوفيّ الدرويشي، بسيرة فقهية عميقة، من قبل علماء جبل عامل، ولو لم تتأسّس على أيديهم حوزةً فقهيّةً عميقةً في إيران، لكان خطّ الصوفيّة الصوفيّ، ينتهي إلى ما انتهى إليه العلويّون في الشام أو تركيا. وكان لهذا العامل أثرٌ كبيرٌ في صيانةِ السيرةِ العامّة، للدولةِ والأمّةِ الإيرانيّةِ من تلكَ التحريفاتِ الصوفيّةِ، وتعديلِ نَفَسِ العرفانِ والتصوّف الشيعيّ. 
إنّ لفقهاء جبلَ عاملٍ، بتأسيسهم الحوزةَ الفقهيّةَ في أصفهان، حقّاً كبيراً على ذمّةِ الأمّةِ الإيرانيّة( ). 
وهكذا اندمجت عائلات لبنانيّة كثيرة – والعامليّة منها بشكل خاصّ – في المجتمع الإيرانيّ، حتّى فقدت هويّتها، وأضاعت أصولها العربيّة. غير أنّ هذا لم يمنع، أن نرى عائلات أخرى قد حرصت على التمسّك بجذورها... فبرزت أسماؤها بين العوائل الإيرانيّة، مدموغة بـ "العامليّ"، أو بـ "الجبل العامليّ"؛ وهو ما يظهر في "طهران" و"مشهد"... وبالأخص في "أصفهان"، حيث ما زالت هذه العائلات تحتفظ بمواقعها الاجتماعيّة والفكريّة المرموقة( ).
وفي المقابل، كان الإيرانيّون يَفِدون إلى "جبل عامل" بين الفينة والفينة : إمّا طلباً للعلم... أو للسكن فيه أيضاً. ومن هؤلاء : 
ناصر بن إبراهيم البويهي (ت 853 ه. / 1449 م.) الذي أخذ العلم في مدرسة "عيناثا" (قرب بنت جبيل)، فكان عالماً فقهياً، وأصوليّاً متعمّقاً... إلى جانب معرفة رياضيّة واسعة، وشاعريّة عاطفيّة رقيقة. 
ومنهم، المحقق الأصولي عبد الله التستري (ت 1021 ه. / 1612 م.) صاحب المصنّفات الفقهيّة الضخمة، الذي حضر إلى مدرسة "عيناثا" أيضاً، واستجاز من نعمة الله بن خاتون العامليّ... كما درس على ولده الشيخ أحمد( ).
العلاقات الفكريّة في العصر الحديث
انحدرت العلاقات الفكريّة بين إيران ولبنان بعد العصر الصفويّ، إلى مستويات متدنيّة نوعاً ما، ولم تستعدْ زخمها إلا بعد استقلال لبنان سنة 1943 م... لتبلغ هذه العلاقات ذروتها، بعد قيام الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران سنة 1979 م. وقد تجلّت هذه العلاقات والحوار الثقافي بين البلدين، في عدّة أمور، منها : 
اللغة الفارسيّة في لبنان( ) :
عملاً بقول الإمام علي (ع) :
بِقَـدْرِ لُغَـاتِ المَـرْءِ يَكْثُـرُ نَـــــفْــــــعُـــــهُ    وَتِلْكَ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ أَعْـوَانُ
فَبَادِرْ إلى حِفْظِ اللُّغَاتِ مُسَارِعَاً    فَكُلُّ لِسَانٍ في الحَقِيقَةِ إِنْسَانُ( )
... عَمَدَ اللبنانيّون إلى تعلّم اللغة الفارسيّة، والكتابة بها، إلى جانب العربيّة، منذ زمن بعيد؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر... فإنّ السيد عبّاس بن علي بن نور الدين (ت 1179 ه.) صاحب كتاب "نزهة الجليس" له أشعار بالفارسيّة والعربيّة، مع أنّه لم يزر إيران( ) قطّ؛ كذلك كان الشيخ أحمد عارف الزين (ت 1960 م.) صاحب مجلّة "العرفان"، يتقن الفارسيّة أيضاً، إلى جانب عدّة لغات أخرى... وهكذا لم يقتصر تعلّم اللغة الفارسيّة على اللبنانيّين الذين رحلوا إلى إيران، أو أقاموا فيها فقط... بل كانت مطلباً أساسيّاً، من مستلزمات التكامل الثقافي والتحصيل العلمي عندهم. 
غير أنّ الفارسيّة، لم تأخذ طريقها إلى الانتشار في لبنان، في العصر الحديث، بشكل منتظم.. إلّا عبر مؤسّسات التعليم في هذا البلد، وخصوصًا الجامعات : انطلاقاً من كلّيّة الآداب في الجامعة اللبنانيّة في بيروت، بعد تأسيس "كرسي اللغة الفارسيّة" فيها سنة 1956 م.، نتيجة لمعاهدة ثقافيّة بين "الجامعة اللبنانيّة" و"جامعة طهران"، التي أوفدت الأستاذ الدكتور محمّد محمّدي ليشرف على هذا التأسيس... وليكون بالتالي، أوّل أستاذ للغة الفارسيّة في الجامعة اللبنانيّة. وقد جرى احتفال رسمي بهذه المناسبة، حضره شاه إيران محمّد رضا بهلوي وزوجته الإمبراطورة ثريا... إلى جانب كبار المسؤولين اللبنانيّين، تأكيداً على الدور المرجوّ من هذا المنبر. 
ولم يلبث الدكتور أحمد لواساني، أن انضمّ إلى الدكتور محمّدي في تدريس اللغة الفارسيّة منذ سنة 1958 م.، لتتخرّج على أيديهما، أوّل دفعة من طلّاب اللغة الفارسيّة، في كلّيّة الآداب( ). 
ومنذ ذلك الوقت، تشهد كلّيّة الآداب في الجامعة اللبنانيّة، في بيروت، وبفروعها – التي أحدَثَتْ في المحافظات سنة 1975 م. – إقبالاً لا بأس به، على تعلّم اللغة الفارسيّة، حيث يقوم أساتذة لبنانيّون (منهم صاحب هذا البحث) بتدريس هذه اللغة... واضعين الكتب المتخصّصة، لتسهيل ذلك. 
وفي عام 2010 م.، تمّ تطوير الاتفاقيّة بين "الجامعة اللبنانيّة" و"جامعة طهران"، ليتحوّل الأمر، من تدريس "لغة" فقط، إلى تأسيس قسم للغة الفارسيّة وآدابها، يمنح الطلاب في نهاية دراسته "إجازة" جامعيّة في ذلك. 
فضلاً عن الجامعة اللبنانيّة، تدرّس اللغة الفارسيّة في كلٍّ من : "الجامعة الأمريكيّة" في بيروت، وفي جامعة القدّيس يوسف (اليسوعيّة)، وفي "جامعة الروح القدس" (الكسليك)، وفي الجامعة الإسلاميّة في لبنان... ولو أنّه يُعمَل على إلغاء ذلك في بعضها. 
إلى جانب هذه الجامعات، تقوم "المستشاريّة الثقافيّة للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة" في بيروت، بإجراء دورات مستمرّة وعلى عدّة مستويات لتدريس اللغة الفارسيّة، وتخريج مدرّسين لها، ... لعددٍ من المدارس الخاصّة، التي باتت الفارسيّة إحدى اللغات المقرّرة في مناهجها التعليميّة، كمدارس جمعيّة "الإمام المهدي" مثلاً.
الترجمات
ومن مظاهر العلاقات الفكريّة المتينة، التي تربط لبنان وإيران... هذه الترجمات المتنوّعة والمتبادلة، في مجالات الأدب والفلسفة والسياسة والدين، وغيرها... التي يقوم بها المترجمون اللبنانيّون والإيرانيّون، على حدّ سواء، في محاولة لزيادة التقارب واللحمة بين الشعبين... من خلال هذا الإشعاع الفكري المتبادل، والحوار الثقافي غير المباشر.
ومن اللبنانيّين الذين أسهموا في هذا المجال، على سبيل المثال : وديع البستاني، الذي ترجم سنة 1912 رباعيّات الخيام (عن الانكليزيّة). د. فيكتور الكك، الذي ترجم مجموعة كبيرة من الأشعار والمقالات، د. دلال عبّاس التي تَرْجَمَت عدّة أجزاء من "دائرة معارف العالم الإسلامي"( ). وكتاب "قبض وبسط" للكاتب الإيراني عبد الكريم سروش، وكتاب "القطّ والفأر" للشيخ البهائي، وكتاب "حياتي" للرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني. ومن المترجمين كذلك، عمر شلبي الذي ترجم "ديوان حافظ" إلى العربيّة شعراً. ولا ننسى هنا الإمام السيد موسى الصدر، الذي نقل إلى العربيّة إحدى روائع الأدب الفارسيّ الحديث، وهي رواية "النادمون" للروائيّة سيمين دانشور (ت 9 آذار 2012 م.، وهي زوجة الكاتب المعروف جلال آل أحمد المتوفي سنة 1969 م... وأوّل رئيسة لاتحاد الكتّاب الإيرانيّين). 
أمّا من الجانب الإيراني، فإنّ الشاعر المترجم الإيراني د. موسى بيدح، قد قام بنشاط واسع في هذا المجال، ومن خلال ترجماته إلى الفارسيّة لعدّة أعمال شعريّة لبنانيّة. ولعلّ من آخر الأعمال المترجمة إلى الفارسيّة. هي مجموعة الدكتور علي حجازي القصصيّة "وفاء زيتون"، والتي قام بترجمتها موسى عربي وعلي آراش بور. 
على أنّ أهمّ الأعمال الفكريّة اللبنانيّة المترجمة إلى الفارسيّة، والأكثر رواجاً في إيران، هو كتاب جورج جرداق "الإمام علي صوت العدالة الإنسانيّة".. وتأكيداً على أثر هذا الكتاب في ترسيخ الحوار الثقافي وتمتين العلاقات الفكريّة بين لبنان وإيران، فقد أطلق في شهر أيلول / سبتمبر من العام الحالي (2016) اسم المؤلّف على أحد شوارع طهران. 
المجلّات
تُعتَبَر المجلّات، معلماً بارزاً من معالم التواصل الفكري بين الشعوب : سواء من حيث التعريف بهذا البلد أو ذاك... وتسليط الضوء على مجريات الحياة فيه... أو من خلال تلاقح الأقلام المتعدّدة المشارب التي تسهم في الكتابة فيها. 
ولعلّ مجلّة "العرفان" التي أسّسها الشيخ أحمد عارف الزين في مدينة "صيدا" في لبنان، في شباط (فبراير) سنة 1909 م.، هي خير دليل على ذلك( )... وهو ما كان يتجلّى من خلال الاستقبالات الرسميّة والشعبيّة الحارة، التي كان يحظى بها صاحب "العرفان" خلال زياراته المتكرّرة إلى إيران... أو حتّى من خلال الاحتفال التأبيني المهيب العظيم، الذي أُقيم للشيخ الزين في مدينة "مشهد" عقب وفاته فيها، خلال زيارته للروضة المقدّسة أواخر سنة 1960. 
ومن الشواهد على ذلك أيضاً – وهو أهمّها – مجلّة "الدراسات الأدبيّة في الثقافتين العربيّة والفارسيّة وتفاعلهما"، التي تصدر عن قسم اللغة الفارسيّة وآدابها. في كلّيّة الآداب في الجامعة اللبنانيّة في بيروت، ويرأس تحريرها الآن الدكتور فيكتور الكك (أوّل لبناني نال شهادة الدكتوراه في "الأدب الفارسيّ" من جامعة طهران سنة 1963 م.)... وكذلك مجلّة "شيراز"، التي تصدر في "طهران" باللغة العربيّة، عن مركز "الفنّ والفكر الإسلامي" منذ ربيع 2004 م، وهي مجلّة رصينة تختصّ بترجمة عيون الأدب الفارسيّ إلى العربيّة؛ وهذا ما يكرّسه الشعار الذي تحملها على غلافها : "نافذة على الأدب الإيراني"... حيث يرأس تحريرها الكاتب والشاعر المترجم المعروف موسى بيدج، الذي كرّس حتّى الآن، أكثر من خمسة وعشرين عاماً من حياته لمدّ جسور الحوار بين ضفّتيْ الإبداعات الأدبيّة الفارسيّة والعربيّة، وبخاصّةٍ الشعريّة منها. 
ويعاون الدكتور بيدج في إصدار هذه المجلّة، لجنة متمرّسة من المترجمين، منهم : جمال كاظم وحيدر نجف وسمير أرشدي وصادق خورشا، فضلاً عن المدير الفنّي للمجلّة الأستاذ باسم الرسّام. 
وقد وَعَت "المستشاريّة الثقافيّة للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة" في بيروت، منذ تأسيسها بعد قيام الثورة... أهمّيّة الدور المُناط بالمجلّات، في تمتين الأَوَاصر الثقافيّة بين لبنان وإيران... فَعَمَدَت إلى إصدار مجلّة "الراصد"، التي حملت بعد فترة اسم : "الرصد الثقافي"، للقيام بهذه المهمّة. ثمّ بدأ "المركز الثقافي الإيراني في بيروت" (التابع للمستشاريّة)، منذ شباط (فبراير) 2007 م، بإصدار مجلّة "إيران الثقافي"، وهي (فصليّة تُعنَى بشؤون الثقافة والفنّ والتراث) بإشراف المدير التنفيذي، الأستاذ محمّد سعد، هذا فضلاً عن عدّة مجلّات أخرى، في كِلا البلدَيْن، تُسهِم بمستويات مختلفة في هذا المجال (التواصل الفكري والحوار الثقافي غير المباشر). 

المؤتمرات والندوات الفكريّة
ومن الأمور المهمّة في حقل التواصل الثقافي المباشر بين لبنان وإيران... هذه المؤتمرات والندوات الفكريّة، التي تُعْقَد في لبنان أو في إيران... أو حتّى في دول الجوار... ويُشارك فيها باحثون من كِلا البلديْن... ممّا يسمح لهم بالتواصل الفكريّ والنقاش المباشر، ومن دون الحاجة إلى وسيط؛ وقد كان لصاحب هذا البحث، شرف المشاركة في أغلب هذه اللقاءات الفكريّة، سواء في لبنان أو إيران أو سوريا أو غيرها. ومن هذه اللقاءات : 
الندوة التي نظمتها "المستشاريّة الثقافيّة للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة" في بيروت، في الرابع من كانون الأوّل (ديسمبر) 1992 م.، في قاعة "وست هول" في الجامعة الأميركيّة في بيروت، تحت عنوان : "دور اللغة الفارسيّة وآدابها في التفاعل الحضاري" حيث شارك في هذه الندوة أساتذة اللغة الفارسيّة في فروع كلّيّة الآداب في الجامعة اللبنانيّة آنذاك، الدكاترة : المرحوم أحمد لواساني (ت. في آب 2016)، المرحوم عبد الله الخالدي، طلال مجذوب، طوني الحاج، المرحوم أغناطيوس الصيصي، وعلي يوسف نور الدين( ).
ومن المؤتمرات المهمّة في هذا المجال، "المؤتمر الدولي العربي – الفارسي للأدب المقارن" الذي انعقد في قصر الأونيسكو في بيروت في 11 و 12 أيار (مايو) 2010 م. – بتنسيق بين الجامعة اللبنانيّة، وجامعة فردوسي (مشهد)، والمستشاريّة الثقافيّة" في بيروت – حيث شارك فيه أكثر من ستةٍ وأربعين باحثاً وباحثةً من مختلف الجامعات الإيرانيّة... وثلاثة عشر باحثًا من الجامعة اللبنانيّة وبعض الجامعات العربيّة الأخرى (سوريا، الأردن، مصر).
ولعلّ من أحدث هذه المؤتمرات، مؤتمر : "الحوار الثقافي والحضاري العربي – الإيراني" الذي انعقد في الأوّل من شهر آذار / مارس من العام الحالي (2016 م.)، في مقرّ الإدارة المركزيّة للجامعة اللبنانيّة، في بيروت، وذلك بدعوة من "المستشاريّة الثقافيّة للجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة" في لبنان، والجامعة اللبنانيّة، و"مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي" الإيراني... كذلك مؤتمر "العرب وإيران في مواجهة التحديّات الإقليميّة" الفُرَص، وآفاق الشراكة... الذي انعقد في بيروت في 31 أيار / مايو، و1 و2 حزيران / يونيو 2016 م.)، وذلك بدعوة من الجامعة اللبنانيّة، ومؤسّسة مطالعات أنديشه سازانِ نور"، (إيران) و"مركز الدراسات الدوليّة" (لبنان)، وجريدة "السفير" (لبنان). وقد شارك في كلا المؤتمَريْن، نخبة من رجال الفكر والثقافة من إيران ولبنان وعدد من الأقطار العربيّة. 
إلى جانب هذا... تلك المؤتمرات المتنقّلة، التي يعقد قسم منها في إيران،و قسمها الثاني في لبنان... على غرار "المؤتمر الدولي في فكر الشهيدين" (بيروت 30 أيار 2011) الذي نظمته "جمعيّة الإمام الصادق لإحياء التراث العلمائي" (بيروت)، و"المركز العالي للعلوم والثقافة الإسلاميّة (قمّ) و"المجتمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلاميّة" (إيران) : حيث انعقد القسم الأوّل منه في مدينة "قمّ" الإيرانيّة في العام 2010... كذلك مؤتمر حول "الإمام عبد الحسين شرف الدين" الذي انعقد القسم الأوّل منه في آذار (مارس) 2005، في مدينة "قمّ"... ثمّ القسم الثاني منه، في أواخر السنة عينها، في بيروت. 
هذا فضلاً عن الندوات الكثيرة التي تقيمها المستشاريّة الثقافيّة في بيروت، بين وقتٍ وآخر تكريماً لهذا المفكّر أو ذاك، أو احتفالاً بمناسبة صدور كتاب ما أو غير ذلك بما يخدم العلاقة الطيبة بين البلدين. 

تبادل الوفود
ومن العوامل التي أسهمت في تعزيز العلاقة الفكريّة بين البلدين بعد الثورة، تبادل الزيارات الفكريّة: سواء على مستوى الجماعات، أو على مستوى الأفراد.. حيث لا تخلو مناسبة فكريّة إيرانيّة، كالمعرض الدولي للكتاب في طهران، أو احتفالات الثورة الإيرانيّة... إلّا ويكون لبنان حاضراً فيها، من خلال عدد من رجال الفكر.. وكذلك زيارة العديد من المحاضرين الإيرانيّين إلى لبنان. 
وفي هذا المجال، لابدّ من الحديث عن الأعداد الكبيرة من الطلاب من كِلا البلدين، الذين يتابعون دراساتهم في البلد الآخر، حتّى أنّه تشكّلت في لبنان جمعيّة باسم "جمعيّة المتخرّجين من المعاهد والجامعات الإيرانيّة"، للتأكيد على عمق العلاقة بين إيران ولبنان. 
وما دمنا في مجال الحديث الفكري والحوار الثقافي... تجدر الإشارة هنا أيضاً، إلى المشاركة المتبادلة، في معارض الكتب الدوليّة، التي تقام سنويّاً في كل من بيروت وطهران، حيث نشهد في كِلا المعرضين، مشاركةً لِدُورِ النشر من كلِّ طرفٍ، في معرض الطرف الآخر... وخصوصًا المشاركة المكثّفة لدور النشر اللبنانيّة في معرض طهران الدولي السنوي للكتاب... من دون أن ننسى دَوْرَ السياحةِ الثقافيّة المباشرة بين إيران ولبنان. 
الإعلام المرئي والمسموع... ووسائل التواصل الاجتماعي
إلى جانب ما تقدّم، يلعبُ الإعلام المرئي والمسموع دوْراً مهمّاً في تعزيز هذا الحوار الثقافي بين لبنان وإيران، وذلك من خلال إنشاء عدّة فروع لمحطات لتلفزة الإيرانيّة، في لبنان... مثل قناة "العالم" أو قناة "الكوثر"، أو غيرهما... الأمر الذي وضع كثيرًا من رجال الفكرِ والثقافةِ وأهْلِ القلم في بيروت، على تماس مباشر مع نُظرائهم الإيرانيّين، من خلال البرامج الثقافيّة التي تقدّمها هذه المحطّات... والتي كثيراً ما جَمَعَتْهُم في لقاءٍ مباشرٍ على الهواء... ممّا جعل المشهدَ الثقافيّ في كِلا البلديْن، في متناول الطرف الآخر، أو مكمّلاً له...
أضِفْ إلى ذلك، فإنّ الإنتاج السينمائي أو التلفزيوني المشترك، أو تبادل الأفلام، أو الممثلين أو الفِرَق المسرحيّة، أو المَعَارِض الفنّية (نحت، رسم، خط..) أو الحفلات الموسيقيّة المتبادَلة... كلّ هذا، يُضفي على العلاقات الفكريّة والحوار الثقافي بين إيران ولبنان، بُعْداً وُجْدَانيّاً خاصّاً، ويجعل كلَّ طرفٍ أكثرَ مُعايَشَةً وفهماً لقضايا الطرف الآخر... مع التشديد، بشكلٍ خاصٍّ ومميّزٍ... على المسلسلات التلفزيونيّة المُؤَلْسَنَةِ (المُدَبْلَجَة)، والتي أثبتت أنّ لها أثراً يفوق السِحْرَ، على تشكيل الوعي الثقافيّ والاجتماعي تجاه الآخر.. ومن ثمَّ الانفتاح عليه بعقليّةٍ متسامحةٍ، وذهنيّةٍ جديدةٍ متفهّمة. 
هذا إلى جانب وسائل التواصل الاجتماعي عبر "الإنترنت"، والتي باتت بِدَوْرِها عالَماً افتراضيّاً قائماً بذاته، يلعب دوراً خطيراً في تشكيل حركة الوعي الإنسانيّ، مُنافِسًا العالمَ الواقعيّ... بل قد يتفوّق عليه. 
وفي كِلا العالَمَيْن – الافتراضي أو الواقعي – لابدّ من مواكبةٍ إعلاميّةٍ مستمرّة، لأيّ جهدٍ أو عملٍ أو حوارٍ ثقافيّ بين الشعوب، وذلك كي يُؤتِيَ هذا الحوارُ أُكُلَهُ. 
ومهما يكن من أمْرٍ، فإنّ العلاقة الفكريّة، والحوارَ الثقافيّ بين لبنان وإيران، هي علاقة متطوّرة ومتجدّدة على الدوام... فضلاً عن كونِها علاقةً راسخةً رسوخ حضارَتيْهِما في أعماق الزمن؛ ومهما اعترى هذه العلاقة أو هذا الحوار من فتور في بعض الأوقات (مع تقلّب المزاج السياسي عند البعض)... فإنّ كلّاً منهما ليعترفُ بفضل الآخر عليه في هذا المجال... وخيرُ شاهدٍ على ذلك... هذه الأبيات للأستاذ في كلّيّة الآداب في جامعة مشهد، الشاعر غلام حسين نقيد، مُرحِّباً عبرها بوفدِ علماءِ لبنان، الذي زار مشهد سنة 1960م. ... قائلاً( ) :
أهْلاً وسهلاً بأَضْيافٍ ذَوي شَرَفٍ    
    مِنْ أَرْضِ لبنانَ قَدْ زاروا خُراسانا
طُوبَى وبُشْرَى لِزُوّارِ الرِّضَا فَلَقَــدْ    
    نَالـــوا بـــذلــكَ عِـنْــدَ اللهِ رِضْـــوانَــا
يا زائِري أَرْضَ طُوسٍ مَرْحَبًا بِكُمُو    
    زُرْتُـــــمْ هُــــــنَـــاكَ أَحِـــبَّــــاءً وإِخْـــوانَــا
إنْ كانَ مُخْتَلِفاً في القَوْلِ مَنْطِقُنَا    
    إنَّــــــا لَــمُتَّحِــــــدٌ قَلْـــبـــــاً و وِجْــــدَانَــــا
الــدِّيـــــنُ والفِــقْـــهُ والآدابُ تَجْمَعُنـــا    
    إنْ كانَ مُفْتَرِقاً في الأَرْضِ مَثْوانَا
مِنْكُمْ أَخَذْنَـــــا قَدِيمــــاً فِقْــــهَ مَذْهَبِنَـــا    
    كُنْتُمْ لَنَا في طَرِيقِ الخَيْرِ أَعْوانَا
فَضْلُ الشَّهيدِ، وَعِلْمُ العَامِلِيِّ كَفَى    
    لِــفَخْرِكُمْ فِي قَدِيــمِ الدَّهْـــرِ بُرْهَانَـــا
والعَامِلِيُّ، بهــاءُ الدّيـــنِ، عَالِمُكُــــمْ    
    قَدْ فَاقَ كُلَّ الوَرَى عِلْماً وَعِرْفَانَا...
فَلْتَبْقَ فِينَـــا عُهُــــودُ الـــوِدِّ ثَابِتَـــةً    
    ويَــحْـــفَــــظِ اللهُ إيـــرانــــاً ولُبْـــنَـــانَــا.
    
د. علي يوسف نور الدين
الجامعة اللبنانيّة
منبع: دبیرخانه مجمع اندیشمندان ایران و جهان عرب
 
امتیاز دهی
 
 

خانه | بازگشت |
Guest (PortalGuest)


Powered By : Sigma ITID