حمد رضا یزدانی مقدم قدرة الفكر الفلسفي على تحليل معطيات الوحي للإجابة عن هذه الأسئلة يلزمنا أن نقف عند الأسلوب الذي يقدّمه لنا الفلاسفة المسلمون لفهم النصوص الدينية. و لأجل معرفة الأسلوب المقترح لهؤلاء الفلاسفة في فهم النصوص الدينية يجدر بنا أولاً أن نعرف ما هي القراءة التي يطرحونها عن جوهر هذه النصوص و طبيعتها و عرضها. و على هذا النحو نريد أن نتبيّن كيف يمكن أن نفهم نصوص الوحي

هل تحول النصوص الدينية دون تطوّر و رقيّ المجتمعات المسلمة؟

هل ينبغي الوقوف عند ظواهر النصوص الدينية و الاكتفاء بالمداليل السابقة للألفاظ و المفاهيم كما يفعل الظاهراتيون؟

هل يؤمن الفلاسفة المسلمون بضرورة التعبّد بالظواهر أم بتجاوزها و النفوذ إلى أعماقها؟

للإجابة عن هذه الأسئلة يلزمنا أن نقف عند الأسلوب الذي يقدّمه لنا الفلاسفة المسلمون لفهم النصوص الدينية. و لأجل معرفة الأسلوب المقترح لهؤلاء الفلاسفة في فهم النصوص الدينية يجدر بنا أولاً أن نعرف ما هي القراءة التي يطرحونها عن جوهر هذه النصوص و طبيعتها و عرضها. و على هذا النحو نريد أن نتبيّن كيف يمكن أن نفهم نصوص الوحي. هل ينبغي الوقوف عند ظواهرها و نجمد على ألفاظها و مداليلها السابقة؟ أم إنّ ظواهر نصوص الوحي تُخفي حقائق عقلية متعالية؟ بل إنّ النص نفسه يسوقنا إلى تلك الحقائق المتعالية؟ من هنا٬ فالجمود على الألفاظ و المداليل لا مبرر له؟

لطالما قيل و فُهم في الفلسفة الإسلامية و في مجال المعارف العقلية النظرية الإلهية بأنّ نصوص الوحي تخفي وراء ستار ظواهرها حقائق عقلية متعالية٬ و أنّ النصوص نفسها تقودنا إلى تلك الحقائق. فهل يصدق٬ في هذه الحالة٬ هذا الموضوع على أحكام الحكمة العملية و مداليلها أم لا؟ لم يتناول فلاسفتنا هذا الموضوع بصورة مباشرة٬ و لكن فحوى كلامهم لا يخرج عن هذا النطاق. كما أنّ الفلاسفة المسلمين قد أسهبوا في تحليل فلسفة الشريعة فيما يخصّ موضوعات الفلسفة السياسية. فشرح موضوع فلسفة الشريعة في مؤلفات هؤلاء الفلاسفة يشي بأنّهم لا يعتقدون بأنّ الأحكام تعاني من الاضطراب و عدم الترابط و التماسك٬ أو لا عقلانية و تفتقر إلى القواعد. بل إنّ الأحكام الشرعية تندرج ضمن الأحكام العقلية الكلية.

من وجهة نظر الفلاسفة المسلمين لا يوجد ثمة إكراه نظري للجمود على الظواهر أو مانعاً نظرياً لتطور المجتمعات الإسلامية. و هم يضعون نصوص الوحي داخل النظام العقلاني و يقومون بتحليلها بموجب هذا النظام٬ و يقدّمون تفسيراً عقلانياً للشريعة و فلسفة الشريعة العقلية. تقوم الفلسفة العقلية للشريعة على التحليل العقلاني لضرورة الوحي و تلقيه و عرضه. لقد عرض الفلاسفة المسلمون تحليلاتهم عن الوحي و النبوة و الدين و الشريعة في الحقل المتعلق بالفلسفة السياسية. فضرورة الوحي و النبوة من وجهة نظرهم تنبثق عن خصوصيات كينونة الإنسان و كماله و سعادته و الحياة الاجتماعية و الحاجة إلى القانون و الشريعة من أجل الحياة الاجتماعية.

لقد قدّم الفلاسفة المسلمون آراء عديدة و متكاملة حول طبيعة الوحي و تحليله٬ و يمكن جمعها٬ تقريباً٬ ضمن نظرية شاملة. و يبدو من كلام هؤلاء الفلاسفة و تحليلهم بأنّ البعد العلوي للوحي هو إلقاء القوة أو منح العلم و العقل البسيط. أما نطاق عملية الوحي في بعدها الدنيوي فتتراوح بين العقل الفعال و الناطقة و المتخيلة و حواس النبي٬ و تتمظهر للبشر في قالب التمثيل و المحاكاة ... و غير ذلك. على هذا٬ فإنّ حقيقة الوحي حقيقة متعالية عقلانية و معنوية٬ و إظهار حقائق الوحي و إبرازها للمتلقين من الأنبياء يحدث بالتناسب مع خصوصياتهم الثقافية و الاجتماعية و الحضارية و التاريخية٬ مع مراعاة مستوياتهم العلمية و العقلية. إذن٬ من وراء ظواهر الألفاظ الدينية٬ و في ضوئها و استناداً إليها تؤخذ بالاعتبار الحقائق المتعالية العقلية الكلية الإنسانية الإلهية. لقد بيّن فلاسفتنا٬ تقريباً٬ من خلال عرض المفاهيم و الأدوات من قبيل الأمثلة و المحاكاة و قدرة المتلقين و استعدادهم و تصنيفهم و منازل نزول القرآن٬ مقام الواحدية أو الأحدية إلى الحقيقة العقلية الكلية للألفاظ و المفاهيم وصولاً إلى المصاديق الجزئية للألفاظ و المفاهيم و إلى ألفاظ القرآن الكريم و أشاروا إلى سبل التعرّف على هذه الحقائق الإلهية العقلية المتعالية و إدراكها و فهمها و بلوغها. يتلخّص تحليل الفلاسفة المسلمين في وجوب عرض مسألة الوحي في أطر مناسبة٬ مثلاً٬ الوحي النازل على نبي يحيا في بلاد العرب و قومه من العرب٬ لا بدّ أن يكون باللغة العربية. و إذا كان قوم النبي يحيون في بلاد أخرى و لهم ثقافات أخرى٬ فسينزل الوحي بما يتناسب مع تلك البلاد و ثقافات شعوبها. و على هذا المنوال٬ لا معنى أن ينزل الوحي باللغة العربية أو الفارسية في بلاد يتكلم أهلها اللاتينية. و هذا المؤشّر دليل يرشدنا إلى فضح المتنبّئين الكذابين. و كما يتم مراعاة لغة أقوام الأنبياء٬ يتم أيضاً مراعاة خصوصياتهم الثقافية و الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية٬ مع المحافظة على الموقف الحقاني والنقدي للوحي الإلهي تجاه انحرافات أولئك الأقوام و أخطائهم.

و هكذا٬ عرض الفلاسفة المسلمون تحليلات عديدة و متكاملة عن النبوة و خصوصياتها و وظائفها و مفهوم الدين و الشريعة و فلسفة الشريعة أو فلسفة الأحكام و الحقوق. و هم من خلال عرض فلسفة الدين و الشريعة و فلسفة الحقوق و الأحكام الدينية و الشرعية٬ تناولوا المسألة من زاوية فلسفية٬ و برهنوا على أنّ فيما وراء ظواهر الأحكام مقاصد إنسانية كلية و عامة الغرض منها تنظيم الحياة الإنسانية و الاجتماعية و السياسية و إرساء أسس العدل ... و غير ذلك. لقد أتاح هؤلاء الفلاسفة إمكانية تصوّر أمثلة جديدة للأحكام و أمثلة جديدة عن الأحكام في الظروف المتغيّرة و المختلفة و ذلك بالاستعانة بعلم الإنسان و فكره. كما فعل كبار فقهاء المسلمين أيضاً عندما تناولوا مقتضيات الزمان و المكان و مقاصد الأحكام و تغيّر موضوعاتها. و بهذه الطريقة يمكن للفلسفة الإسلامية أن تدعم الفقه على صعيد الفلسفة السياسية و فلسفة الحقوق و فلسفة الفقه.

قد تكون لنا رؤية نقدية تجاه تفاصيل تحليلات هؤلاء الفلاسفة و مدى مطابقتها للوحي الإلهي القرآني و أحكام الإسلام٬ و لكن ما يبدو للمرء هو مقبولية الإطار الرئيسي و العام للتحليل المتمثّل في تلقّي الحقائق من الله تبارك و تعالى و إبلاغها للناس و مراعاة الخصوصيات الثقافية و الاجتماعية و الحضارية و التاريخية للمتلقين.

إذن٬ فتحليلات فلاسفتنا المسلمين و تنظيراتهم تحذّر من الجمود على ظواهر الدين و الأمثلة الأولية أو القديمة للأحكام٬ و تحلّق بنا من المستوى الظاهرى نحو حقيقة الدين و أحكامه و فهمه و إدراكه و تطبيقه. فمن ناحية٬ فتحت مكتسبات هؤلاء الفلاسفة سبل التطوّر و الرقي أمام المجتمعات الإسلامية٬ و من ناحية أخرى تمنحنا القدرة على فهم التغيير و إدارة التحولات في المجتمعات الإسلامية على قاعدة الحقائق الدينية و بالمآل حياة الدين و ديناميته.

و لا بدّ من الانتباه إلى أنّ تحليلات الفلاسفة المسلمين طبقاً لنهج الفلسفة الإسلامية السياسية حول الوحي تختلف عن بعض التحليلات المعاصرة٬ على سبيل المثال نذكر:

أ) إنّ تحليلات هؤلاء الفلاسفة تعرض في إطار نهج الفلسفة الإسلامية و مبنية على الرؤية الكونية و الأنثربولوجية للفلسفة الإسلامية٬ و تحيل عليها٬ بينما التحليلات المعاصرة٬ كما هو واضح للعيان٬ غارقة في الاضطراب النظري للمفاهيم؛ و تتجنّب الخوض في الموضوعات البنيوية و الكونية و الأنثروبولوجية و لا تحيلها على نهج الفلسفة الإسلامية.

ب) إنّ التحليلات المعاصرة تنظر إلى موضوع الوحي و القرآن على نحوٍ و كأنّه لا علاقة للوحي بالواقع بتاتاً٬ و إنّما هو تصوّر للواقع فقط٬ و بالإمكان أن نتصوّر هذا الواقع في أيّ صورة أخرى٬ و أنّ التطابق بين التصوّر و العرض بلا معنى و مهمل. في حين أنّ تحليلات الفلاسفة المسلمين تعمل على تطابق التصور بالواقع و كذلك التطابق بين التصوّر و العرض. بالإضافة إلى ذلك٬ فإنّ مسألة أشكال العرض التي يطرحها الفلاسفة المسلمون٬ لها سوابق في الأصول و الفقه الإسلامي و قد تحدّث عنها فطاحل الفقهاء و يتم الاستناد إليها في الوقت الحاضر.

منبع: دبیرخانه مجمع اندیشمندان ایران و جهان عرب
 
امتیاز دهی
 
 

خانه | بازگشت |
Guest (PortalGuest)


Powered By : Sigma ITID