آیت الله جوادی آملی
كلمة آية الله الشيخ جوادي آملي الفلسفة عبارة عن موهبة إلهية تتكفّل بمهمة تثمير العقل و ازدهاره. فهي٬ أوّلاً٬ تنوّر العقل؛ ثانياً٬ تجعل الطريق أمام الإنسان ممهّدة لبلوغ المعقولات؛ ثالثاً٬ تزيد من هبوط المعقولات إلى المحسوسات؛ «الحمد لله ربّ العالمين و صلّى الله على جميع الأنبياء و المرسلين و الأئمة الهداة المهديين سيّما خاتم الأنبياء و خاتم الأوصياء (عليهما آلاف التحية و الثناء) بهم نتولّى و من أعدائهم نتبرّأُ إلى الله»
أرحب أجمل ترحيب بجميع المفكرين و العلماء و الأساتذة الإيرانيين و الأجانب٬ و أتمنى النجاح و الموفقية لهذه النخب الطيبة المشاركة في تكريم و إحياء هذه المحافل العلمية٬ سواء الخطباء منهم أو أصحاب المقالات٬ و أن تزيد مشاركتكم من الثقل العلمي لهذا المؤتمر. و أدعو الله العلي القدير أن يجزي هذه الجهود المخلصة بأفضل الجزاء٬ و يسدّد خطى المثقفين في العالمين الإسلامي و غير الإسلامي و سعيهم الدؤوب لنشر العلوم العقلية.
الفلسفة عبارة عن موهبة إلهية تتكفّل بمهمة تثمير العقل و ازدهاره. فهي٬ أوّلاً٬ تنوّر العقل؛ ثانياً٬ تجعل الطريق أمام الإنسان ممهّدة لبلوغ المعقولات؛ ثالثاً٬ تزيد من هبوط المعقولات إلى المحسوسات؛ رابعاً٬ تعقلن المجتمع الجاهلي؛ خامساً٬ تعمل على إرساء أسس السلام و الاستقرار؛ سادساً٬ تمحو فكر الاختلاف و الداعشية و السلفية؛ بالإضافة إلى ثمار و مواهب عديدة أخرى. 
يتضمّن فعل الفلسفة تثمير العقل. لقد خلق الله تبارك و تعالى النظام و العالم و الإنسان٬ أي خلق الكون٬ و ربط بين الإنسان و الكون٬ و رفع من شأن العقل عالياً لدرجة أنّه يقول لو لم نرسل الرسل و الزعماء الإلهيين لهداية الناس٬ لاحتج هؤلاء البشر على الله بذلك٬ حيث يقول جلّ و علا في آخر سورة النساء المباركة: « رُسُلاً مُبَشِّرِينَ و مُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ». (سورة النساء: آية ۱۶۵)
و هذا٬ في الحقيقة٬ يدلّل على قدرة العقل و قوّته٬ بحيث أنّه يحاور الله تبارك و تعالى و يحاججه٬ و يخاطبه بأنّك خلقتنا٬ و لم نعلم و لا نعلم٬ عن ماضينا شيئاً و لا عن مستقبلنا٬ لا سيّما في المعاد حيث يقول: لم نكن نعلم بأنّنا سنأتي يوماً إلى هذا المكان٬ و لا عن عواقب ذلك٬ فلماذا لم تبعث إلينا الأنبياء و الرسل؟ فيقول تبارك و تعالى: لقد بعثنا الرسل لكيلا لا يحاججنا البشر. هذا التفكير الفلسفي الغني و السديد هو الذي يدفع العقل إلى محاورة الله. فيبرهن على ضرورة الوحي و النبوة٬ و ضرورة هداية الأنبياء للبشر. هذه النقطة الأولى. 
و النقطة الثانية أو العنصر المحوري الثاني٬ أنّ هذا العقل هو الذي يأخذ بيد الحسّيين التجريبيين و يقول لهم٬ صحيح أنّ الحسّ أو التجربة الحسية لها مكانة و شأن رفيعين٬ و أنّ العلوم المادية تنهض بالتجربة الحسية؛ إلّا أنّه ثمّة برهان محكم و غني للتجديد العقلاني يقف وراء التجربة الحسية و ضميرها و جوهرها. يوجد فرق٬ كما هو معلوم٬ بين الاستقراء و التجربة. فالتجربة٬ و ليس الاستقراء٬ تفيد اليقين. و الفرق الجوهري بين الاستقراء و التجربة ذلك البرهان الخفي الذي هو٬ على حدّ تعبير الحكمة المتعالية و المشائية٬ ظهير الاستقراء. لو قام طبيب باختبار دواء أو عقار معين في ألف حالة و استدلّ له و جرّبه و استقرأه٬ لما استطاع٬ مع ذلك٬ أن يجزم بأنّ هذا العقار علاج لهذا الألم٬ إلّا بالاستدلال العقلي للاستقراء٬ فيقول٬ لولا وجود علاقة ضرورية بين العقار و العلاج٬ لما كان العقار دائمياً أو أكثرياً٬ و لأنّه دائمي و أكثري٬ يتبيّن من ذلك بأنّه ليس وليد الصدفة٬ و إنّما يقوم على علاقة ضرورية تربط العقار بذلك العلاج. «لو لم یکن ذاتیاً لما کان أکثریاً لکن تالي باطل فالمقدم مثله» و يستنتج من ذلك وجود علاقة ضرورية بين العقار و العلاج٬ فيرتقي بالاستقراء ليصل إلى التجربة٬ و يتحرّر من الظنّ ليبلغ اليقين ثم البرهان. إذن٬ فظهير العلوم التجربية إنّما هو التجريد العقلي٬ هذه النقطة لا يدركها إلّا العقل٬ و لا يمكن اختبارها بالتجربة و الاختبار. 
أمّا عنصر المحور الثاني فهو يقين الإنسان بمبدأ التناقض في جميع الحالات٬ بعدم اجتماع الوجود و العدم٬ و عدم اجتماع المتضادين٬ و عدم اجتماع المثيلين٬ و استحالة الدور٬ و استحالة اجتماع الضدين٬ و استحالة اجتماع النقيضين. هذه الأشياء لا يدركها إلّا العقل الفطري الذي جعله الله تبارك و تعالى رأس مال الإنسان. هذه الأشياء لا يمكن للإنسان أن يفهمها في المختبر٬ فالتجربة المختبرية لا تكشف لنا عن مبدأ التناقض٬ بل العقل هو الذي يدرك بأنّ الوجود و العدم لا يجتمعان٬ و إذا انتفى مبدأ التناقض٬ لن نتيقّن٬ حينئذ٬ من أيّ شيء٬ أي٬ حينئذ نقول قد يكون ما نراه موجوداً أو غير موجود. و ما يحول دون وقوع هذا الأمر هو مبدأ استحالة التناقض٬ لأنّ التناقض أمر عقلي. و بناءً على هذا الكلام٬ نستطيع ببركة التجريد العقلي أن ننقل التجارب الحسية من الظنّ إلى اليقين٬ لتكون لنا سنداً و عوناً٬ أمّا الخطر الكامن في الحسّية و تفضيل التجريبية هو٬ إذا أصبح الحسّ و التجربة المدار الذي يدور حوله الإنسان أو المجتمع أو معرفة شعب معين٬ و أصبح لا يصدّق إلّا ما يرى بعينيه٬ إذن٬ فهذا عين تفكير بني إسرائيل كما يحدّثنا القرآن الكريم عنهم و الذي وبّخهم بسببه عندما قالوا: «لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً». لقد ابتلوا بالتجربة الحسية٬ فقالوا لا نؤمن بشيء لا نحسّه. نعم٬ كان هذا تفكير بني إسرائيل. أو حين قالوا لموسى كليم الله «أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً» حتى نؤمن به. يلزمنا كليم إلهي آخر ليقول «باطلٌ ما کان یعلمون». إذا جعلنا الحسّ و التجربة معياراً للمعرفة٬ فلا جرم أنّ نتيجة ذلك ستكون خطيرة. أذكر أنّه قبل سنوات من انتصار الثورة الإسلامية في إيران ورد في الصحف الإيرانية تصريح لخروتشوف رئیس الاتحاد السوفيتي السابق يقول فيه: ماذا لله٬ أي لا يوجد إله٬ و لو كان لرأيناه. يعتقد هؤلاء أنّه يجب القبول بكل ما يرونه. بينما تخاطبنا الفلسفة الإلهية قائلة: لا جرم أنّكم تقبلون بالكثير من المعارف في حين أنّها سمعية و ليست مرئية. خذ مثلاً قانون التجربة الذي يوصل الاستقراء إلى اليقين٬ و مبدأ التناقض الذي يقطع بالمحسوس٬ فكلاهما غير مرئييْن. الأمر المهم هنا أنّ ثمرة الفلسفة هي في إخراج الإنسان من ضلاله و حيرته. من كان رأس ماله الحسّ و التجربة٬ لما علم من أين جاء و إلى أين سيذهب٬ و ما هي مسؤوليته٬ و سيعيش في شكٍ دائم٬ و يعتقد أنّه عندما يموت سيتحلّل و يتفسّخ٬ في حين أنّ الفلسفة الإلهية تقول لنا بأنّ الإنسان عندما يموت: أولاً٬ سوف ينسلخ من جلده٬ و ثانياً٬ إنّ الإنسان هو الذي يميت الموت و لا يموت.
تستمدّ الفلسفة الإلهية تعاليمها الإلهية من الوحي٬ فبعد القبول بالوحي٬ يقول هذا العقل نحن بحاجة للوحي٬ و يقوم الوحي بتفسير أنّ الإنسان يميت الموت٬ و لا يموت. لم يقل القرآن الكريم كلّ نفسٍ تذوق الموت٬ بل قال كل نفسٍ ذائقة الموت.
و من المعلوم أنّ كلّ ذائق يقوم بهضم ما يتذوقه. فنحن الذين نميت الموت٬ و نحن الذين ندوس على الموت بأقدامنا٬ و نحن الذين نجتاز الموت و نعبره لنصل إلى الأبدية٬ إذن٬ نحن موجودون و الموت غير موجود٬ هذه التعاليم من ثمرات الفلسفة الإلهية٬ التي أزهرت ببركة الوحي٬ و أزهر معها المجتمع. لطالما سمعنا و رأينا بأنّ القوى الكبرى هي التي أشعلت الحربين العالميتين اللتين قدّرت خسائرهما و ضحاياهما بـ 70 مليون شخص على الأقل٬ و مع ذلك لم تستطع تلك القوى جلب الاستقرار لهذا العالم٬ و اليوم أيضاً كل ما نراه عبارة عن حروب بالوكالة. فمثلاً كيف كانت أوضاع سورية و كيف أصبحت اليوم بفضل الله و لطفه٬ و العراق أيضاً كيف كان و كيف صار اليوم بفضل الله و لطفه٬ و أنتم ترون أوضاع اليمن اليوم الذي نأمل أن يمضي نحو الصلاح و الحقيقة و الأمن و الأمان. هيهات أن ينصلح حال المجتمعات و يتمدّن بالقتل و سفك الدماء و الاختلاف و العنجهية. إذن٬ العقل الفلسفي هو الذي يدعو الإنسان إلى الاستقرار و الثبات و السكينة و الأمن و الأمان.
أجدّد الترحيب بحضراتكم٬ و أثمّن دور القائمين على هذا الملتقى العلمي الرصين٬ و أقدّم جزيل الشكر إلى ضيوف الجمهورية الإسلامية الإيرانية الكرام على حضورهم٬ و أرجو أن ننعم بعالمٍ خالٍ من ويلات الحروب و النهب و الاستغلال و الخيانة و سفك الدماء و ما شابه٬ و أن يعيش العالم في ظلّ العقل في عدل و سلام.
غفر الله لنا و لکم، و السلام علیکم و رحمه الله و برکاته.
 
منبع: دبیرخانه مجمع اندیشمندان ایران و جهان عرب
 
امتیاز دهی
 
 

خانه | بازگشت |
Guest (PortalGuest)


Powered By : Sigma ITID